كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



هَذَا وَإِنَّ التَّغَالِيَ فِي الْمُهُورِ قَدْ صَارَ مِنْ أَسْبَابِ قِلَّةِ الزَّوَاجِ؛ لِأَنَّهُ يُكَلِّفُ الرِّجَالَ مَا لَا طَاقَةَ لَهُمْ بِهِ، وَقِلَّةُ الزَّوَاجِ تُفْضِي إِلَى كَثْرَةِ الزِّنَا، وَالْفَسَادِ، وَيَكُونُ الْغَبْنُ فِي ذَلِكَ عَلَى النِّسَاءِ أَكْثَرَ حَتَّى إِنَّهُ رُبَّمَا يَنْتَهِي بِالسُّنَّةِ الْإِلَهِيَّةِ فِي الْخَلْقِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِرَدِّ الْفِعْلِ إِلَى أَنْ يَصِيرَ النِّسَاءُ فِي الْإِسْلَامِ هُنَّ اللَّوَاتِي يُعْطِينَ الْمُهُورَ لِلرِّجَالِ لِيَتَزَوَّجُوهُنَّ، كَمَا هِيَ عَادَةُ النَّصَارَى. وَإِنَّكَ لَتَرَى هَذِهِ الْعَادَةَ الضَّارَّةَ مُتَمَكِّنَةً فِي بَعْضِ النَّاسِ تَمَكُّنًا غَرِيبًا حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَمْتَنِعَ مِنْ تَزْوِيجِ ابْنَتِهِ لِلْكُفْءِ الصَّالِحِ الَّذِي لَا يَطْمَعُ فِي مِثْلِهِ إِذَا كَانَ لَا يُعْطِيهِ مَا يَرَاهُ لَائِقًا بِمَقَامِهِ مِنَ الصَّدَاقِ، وَقَدْ يُزَوِّجُهَا لِمَنْ لَا يُرْضِيهِ دِينُهُ، وَلَا خُلُقُهُ، وَلَا يَرْجُو لَهَا الْهَنَاءَ عِنْدَهُ إِذَا هُوَ أَعْطَاهُ الْمِقْدَارَ الْكَثِيرَ الَّذِي يُخَيِّلُ إِلَيْهِ جَهْلُهُ أَنَّهُ لَائِقٌ بِمَقَامِهِ، وَهَكَذَا تَتَحَكَّمُ الْعَادَاتُ الضَّارَّةُ، وَالتَّقَالِيدُ الْفَاسِدَةُ بِالنَّاسِ حَتَّى تُفْسِدَ عَلَيْهِمْ نِظَامَ مَعِيشَتِهِمْ، وَهُمْ لِجَهْلِهِمْ أَوْ ضَعْفِ عَزَائِمِهِمْ يَنْقَادُونَ لَهَا صَاغِرِينَ!
{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}.
الْكَلَامُ مُتَّصِلٌ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فِي الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنِّسَاءِ، وَقَدْ كَانَ مِنْهَا فِي أَوَائِلِ السُّورَةِ حُكْمُ نِكَاحِ الْيَتَامَى، وَعَدَدُ مَا يَحِلُّ مِنَ النِّسَاءِ بِشَرْطِهِ. وَفِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ ذَكَرَ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ بِأَنْ يُطَلِّقَ هَذِهِ وَيَنْكِحَ تِلْكَ، فَلَا غَرْوَ أَنْ يَصِلَ ذَلِكَ بِبَيَانِ مَا يَحْرُمُ نِكَاحُهُ مِنْهُنَّ، وَقَدْ بَيَّنَ مَا يَجِبُ مِنَ الْمَعْرُوفِ فِي مُعَاشَرَتِهِنَّ، وَقَالَ الْبِقَاعِيُّ فِي نَظْمِ الدُّرَرِ: لَمَّا كَرَّرَ الْإِذْنَ فِي نِكَاحِهِنَّ، وَمَا تَضَمَّنَهُ مَنْطُوقًا، وَمَفْهُومًا، وَكَانَ قَدْ تَقَدَّمَ الْإِذْنُ فِي نِكَاحِ مَا طَابَ مِنَ النِّسَاءِ، وَكَانَ الطَّيِّبُ شَرْعًا يَحْمِلُ عَلَى الْحِلِّ مَسَّتِ الْحَاجَةُ إِلَى مَا يَحِلُّ مِنْهُنَّ لِذَلِكَ وَمَا يَحْرُمُ فَقَالَ: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ.
أَقُولُ: قَدَّمَ هَذَا النِّكَاحَ عَلَى غَيْرِهِ، وَجَعَلَهُ فِي آيَةٍ خَاصَّةٍ، وَلَمْ يَسْرُدْهُ مَعَ سَائِرِ الْمُحَرَّمَاتِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى؛ لِأَنَّهُ عَلَى قُبْحِهِ كَانَ فَاشِيًّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلِذَاكَ ذَمَّهُ بِمِثْلِ مَا ذَمَّ بِهِ الزِّنَا لِلتَّنْفِيرِ عَنْهُ كَمَا تَرَى فِي آخِرِ الْآيَةِ. أَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا تُوُفِّيَ عَنِ امْرَأَتِهِ كَانَ ابْنُهُ أَحَقَّ بِهَا أَنْ يَنْكِحَهَا إِنْ شَاءَ إِنْ لَمْ تَكُنْ أُمَّهُ، أَوْ يَنْكِحُهَا مَنْ شَاءَ، فَلَمَّا مَاتَ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ قَامَ ابْنُهُ مِحْصَنٌ فَوَرِثَ نِكَاحَ امْرَأَتِهِ أَمِّ عُبَيْدٍ بِنْتِ ضَمْرَةَ، وَلَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا، وَلَمْ يُوَرِّثْهَا مِنَ الْمَالِ شَيْئًا، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: ارْجِعِي لَعَلَّ اللهَ يُنْزِلُ فِيكِ شَيْئًا فَنَزَلَتْ وَلَا تَنْكِحُوا الْآيَةَ. وَنَزَلَتْ أَيْضًا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا أَيْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ عَقِبَ وُقُوعِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ وَأَمْثَالِهَا، وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ الْقِصَّةِ بِلَفْظٍ آخَرَ عِنْدَ تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْأُولَى، وَمَا هِيَ بِبَعِيدٍ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ، وَغَيْرُهُ مِمَّنْ تَكَلَّمَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي مِحْصَنٍ الْمَذْكُورِ، وَفِي الْأَسْوَدِ بْنِ خَلَفٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ، وَفِي صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ فَاخِتَةَ بِنْتَ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ، وَفِي مَنْظُورِ بْنِ رَيَّانَ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ مُلَيْكَةَ بِنْتَ خَارِجَةَ.
وَالنِّكَاحُ هُوَ الزَّوَاجُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [2: 230] أَنَّ النِّكَاحَ لَهُ إِطْلَاقَانِ: يُطْلَقُ عَلَى عَقْدِ الزَّوْجِيَّةِ، وَعَلَى مَا وَرَاءَ الْعَقْدِ، وَمَا يُقْصَدُ بِهِ، أَيْ مَجْمُوعُهُمَا، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَاكَ. وَقَدْ صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْعَقْدِ، وَعَلَى الْوَطْءِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَيِّ الْإِطْلَاقَيْنِ هُوَ الْحَقِيقِيُّ، وَأَيِّهِمَا الْمَجَازِيُّ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُطْلَقُ شَرْعًا عَلَى الْوَطْءِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ، وَإِنَّمَا كَمَالُ مَعْنَاهُ الشَّرْعِيِّ الْعَقْدُ، وَمَا وَرَاءَهُ كَمَا قُلْنَا، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْعَقْدِ وَحْدَهُ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: وَهُوَ الَّذِي تُمْكِنُ مَعْرِفَتُهُ، وَتُبْنَى عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ فِي الْغَالِبِ، بِخِلَافِ مَا قَالَهُ الْحَنَفِيَّةُ مِنْ أَنَّ حَقِيقَتَهُ الْوَطْءُ، وَيُؤَيِّدُ مَا اخْتَارَهُ الْأُسْتَاذُ تَفْسِيرُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ النِّكَاحَ هُنَا بِالْعَقْدِ. فَقَدْ رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا أَبُوكَ دَخَلَ بِهَا، أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَهِيَ عَلَيْكَ حَرَامٌ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ الْحَسَنِ، وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَالْمُرَادُ مِنَ الْآبَاءِ مَا يَشْمَلُ بِالْإِجْمَاعِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} مَعْنَاهُ لَكِنْ مَا سَلَفَ مِنْ ذَلِكَ لَا تُؤَاخَذُونَ عَلَيْهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَاهُ: إِلَّا مَا قَدْ مَاتَ مِنْهُنَّ، وَرَوَوْهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَقَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُبَالَغَةُ فِي تَأْكِيدِ التَّحْرِيمِ، وَقَطْعُ عِرْقِ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ وَسَدُّ بَابِ إِبَاحَتِهَا سَدًّا مُحْكَمًا، وَهُوَ لَيْسَ بِظَاهِرٍ عِنْدِي إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا أَيْ إِنَّ نِكَاحَ حَلَائِلِ الْآبَاءِ كَانَ، وَلَا يَزَالُ فِي الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ الَّتِي فَطَرَ اللهُ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَأَيَّدَتْهَا الشَّرِيعَةُ الَّتِي هَدَاهُمْ إِلَيْهَا أَمْرًا فَاحِشًا شَدِيدَ الْقُبْحِ عِنْدَ مَنْ يَعْقِلُ وَمَقْتًا أَيْ مَمْقُوتًا مَقْتًا شَدِيدًا عِنْدَ ذَوِي الطِّبَاعِ السَّلِيمَةِ حَتَّى كَأَنَّهُ نَفْسُ الْمَقْتِ، وَهُوَ الْبُغْضُ الشَّدِيدُ أَوْ بُغْضُ الِاحْتِقَارِ، وَالِاشْمِئْزَازِ، وَكَانُوا يُسَمُّونَ هَذَا النِّكَاحَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ نِكَاحَ الْمَقْتِ، وَسُمِّيَ الْوَلَدُ مِنْهُ مَقْتِيًّا، وَمَقِيتًا، أَيْ مَبْغُوضًا مُحْتَقَرًا وَسَاءَ سَبِيلًا أَيْ بِئْسَ طَرِيقًا طَرِيقُ ذَلِكَ النِّكَاحِ الَّذِي اعْتَادَتْهُ الْجَاهِلِيَّةُ، وَبِئْسَ مَنْ يَسْلُكُهُ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: إِنَّ هَذَا النِّكَاحَ، وَإِنْ كَانَ سَبِيلًا مَسْلُوكًا إِلَّا أَنَّهُ سَبِيلٌ سَيِّئٌ، وَلَمْ يَزِدْهُ السَّيْرُ فِيهِ إِلَّا قُبْحًا، وَمَقْتًا، وَقَالَ الْإِمَامُ الرَّازِيُّ: مَرَاتِبُ الْقُبْحِ ثَلَاثٌ: الْقُبْحُ الْعَقْلِيُّ، وَالْقُبْحُ الشَّرْعِيُّ، وَالْقُبْحُ الْعَادِيُّ، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ سُبْحَانَهُ هَذَا النِّكَاحَ بِكُلِّ ذَلِكَ، فَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {فَاحِشَةً} إِشَارَةٌ إِلَى مَرْتَبَةِ قُبْحِهِ الْعَقْلِيِّ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَقْتًا} إِشَارَةٌ إِلَى مَرْتَبَةِ قُبْحِهِ الشَّرْعِيِّ، وَقَوْلُهُ: {وَسَاءَ سَبِيلًا} إِشَارَةٌ إِلَى مَرْتَبَةِ قُبْحِهِ الْعَادِيِّ.
أَقُولُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَخِيرَ يُرَادُ بِهِ الْقُبْحُ الْعَادِيُّ؛ أَيْ إِنَّهُ عَادَةٌ، وَلَكِنَّهَا قَبِيحَةٌ وَمَا قَبْلَهُ يُرَادُ بِهِ الْقُبْحُ الطَّبْعِيُّ، أَيْ أَنَّ الطِّبَاعَ تَمْقُتُ هَذَا لِاسْتِقْبَاحِهَا إِيَّاهُ، وَالْأَوَّلُ كَمَا قَالَ الرَّازِيُّ يُرَادُ بِهِ الْقُبْحُ الْعَقْلِيُّ كَمَا أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ عِنْدَ تَفْسِيرِ الْعِبَارَاتِ، وَفَاتَهُ هُوَ ذِكْرُ الْقُبْحِ الطَّبْعِيِّ، وَأَمَّا مَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْقُبْحِ الشَّرْعِيِّ فَإِنَّمَا يُعْرَفُ بِوُرُودِ الْوَحْيِ بِتَحْرِيمِهِ فَهُوَ مَرْتَبَةٌ رَابِعَةٌ. فَاللهُ تَعَالَى قَدْ حَرَّمَ حَلَائِلَ الْآبَاءِ، وَعَلَّلَهُ بِمَا فِيهِ الْقَبَائِحُ الثَّلَاثُ.
هَذَا مَا جَرَى عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ مَا فِي قَوْلِهِ: {مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ لَا تَنْكِحُوا النِّسَاءَ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ كَمَا كَانَ يَنْكِحُ آبَاؤُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِتِلْكَ الطُّرُقِ الْفَاسِدَةِ كَالنِّكَاحِ بِدُونِ شُهُودٍ. وَنِكَاحِ الشِّغَارِ: وَهُوَ الْمُبَادَلَةُ فِي الزَّوَاجِ بِأَنْ يُزَوِّجَ الرَّجُلُ مَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَيْهَا رَجُلًا آخَرَ عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ هَذَا مُوَلِّيَتَهُ، وَلَا مَهْرَ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَلْ كُلٌّ مِنْهُمَا تَكُونُ كَمَهْرٍ لِلْأُخْرَى.
وَعِبَارَةُ ابْنِ جَرِيرٍ بَعْدَ نَقْلِ الرِّوَايَاتِ فِي تَفْسِيرِ الْجُمْهُورِ لِلْآيَةِ، وَنَقْلِ قَوْلِ ابْنِ زَيْدٍ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ- الزِّنَا- هَذَا نَصُّهَا قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ عَلَى مَا قَالَهُ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِهِ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَلَا تَنْكِحُوا مِنَ النِّسَاءِ نِكَاحَ آبَائِكُمْ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ مِنْكُمْ فَمَضَى فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً إلخ.
ثُمَّ قَالَ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا الْقَوْلُ مُوَافِقًا قَوْلَ مَنْ ذَكَرْتَ قَوْلَهُ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الَّذِينَ ذَكَرْتَ قَوْلَهُمْ إِنَّمَا قَالُوا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي النَّهْيِ عَنْ نِكَاحِ حَلَائِلِ الْآبَاءِ، وَأَنْتَ تَذْكُرُ أَنَّهُمْ إِنَّمَا نُهُوا أَنْ يَنْكِحُوا نِكَاحَهُمْ؟ قِيلَ لَهُ: وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ هُوَ التَّأْوِيلُ الْمُوَافِقُ لِظَاهِرِ التَّنْزِيلِ إِذْ كَانَتْ مَا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِغَيْرِ بَنِي آدَمَ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ النَّهْيَ- عَنْ حَلَائِلِ الْآبَاءِ دُونَ سَائِرِ مَا كَانَ مِنْ مَنَاكِحِ آبَائِهِمْ حَرَامًا ابْتِدَاءُ مِثْلِهِ فِي الْإِسْلَامِ بِنَهْيِ اللهِ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ- لَقِيلَ: وَلَا تَنْكِحُوا مَنْ نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، إِذْ كَانَ مَنْ لِبَنِي آدَمَ، ومَا لِغَيْرِهِمْ، وَلَا تَقُلْ- أَيْ حِينَئِذٍ- وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي مَا مَا كَانَ مِنْ مَنَاكِحِ آبَائِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَتَنَاكَحُونَهَا فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ. فَحَرُمَ عَلَيْهِمْ فِي الْإِسْلَامِ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَتَنَاكَحُونَهُ فِي شِرْكِهِمْ. وَمَعْنَى إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِلَّا مَا قَدْ مَضَى إِلَى آخِرِ مَا قَالَ.
ثُمَّ بَيَّنَ لَنَا سُبْحَانَهُ أَنْوَاعَ الْمُحَرَّمَاتِ فِي النِّكَاحِ لِعِلَّةٍ ثَابِتَةٍ مَا فِي النِّكَاحِ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي صِلَةِ الْبَشَرِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، أَوْ لِعِلَّةٍ عَارِضَةٍ كَذَلِكَ. وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ دَاخِلَةٌ فِي عِدَّةِ أَقْسَامٍ: الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: مَا يَحْرُمُ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ، وَهُوَ أَنْوَاعٌ:
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: نِكَاحُ الْأُصُولِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} أَيْ حَرَّمَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْكُمْ أَنْ تَتَزَوَّجُوا أُمَّهَاتِكُمْ، فَإِسْنَادُ الْفِعْلِ إِلَى الْمَفْعُولِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ الْمُحَرِّمُ لِلْإِيجَازِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ حَكَمَ الْآنَ بِتَحْرِيمِ ذَلِكَ وَمَنْعِهِ، فَهُوَ إِنْشَاءُ حُكْمٍ جَدِيدٍ. وَأُمَّهَاتُنَا هُنَّ اللَّوَاتِي لَهُنَّ صِفَةُ الْوِلَادَةِ مِنْ أُصُولِنَا- وَلَفْظُ الْأُمِّ يُطْلَقُ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي يُنْسَبُ إِلَيْهِ غَيْرُهُ كَأُمِّ الْكِتَابِ، وَأُمِّ الْقُرَى- فَيَدْخُلُ فِيهِنَّ الْجَدَّاتُ، وَكَذَلِكَ فَهِمَهُ جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ، وَأَجْمَعُوا عَلَيْهِ.
النَّوْعُ الثَّانِي: نِكَاحُ الْفُرُوعِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: {وَبَنَاتُكُمْ} وَهُنَّ اللَّوَاتِي وُلِدْنَ لَنَا مِنْ أَصْلَابِنَا، وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ مِنْ تَلْقِيحِنَا، أَوْ وُلِدْنَ لِأَوْلَادِنَا، أَوْ لِأَوْلَادِ أَوْلَادِنَا، وَإِنْ سَلَفُوا، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ كُلُّ مَنْ كُنَّا سَبَبًا فِي وِلَادَتِهِنَّ، وَأُصُولًا لَهُنَّ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ وِلَادَةُ الْبِنْتِ بِعَقْدٍ شَرْعِيٍّ صَحِيحٍ؟ قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: نَعَمْ، وَقَالَ غَيْرُهُمْ: لَا، فَيَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ بِنْتُهُ مِنَ الزِّنَا، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ فِي حَقِّ مَنْ عَلِمَ أَنَّهَا ابْنَتُهُ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَرِثُهُ إِلَّا إِذَا اسْتَلْحَقَهَا؛ لِأَنَّ الْإِرْثَ حَقٌّ تَابِعٌ لِثُبُوتِ النَّسَبِ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِالْفِرَاشِ، أَوْ الِاسْتِلْحَاقِ، وَوَلَدُ الزِّنَا لَيْسَ وَلَدَ فِرَاشٍ فَلَا نَسَبَ لَهُ، وَلَا إِرْثَ مَا لَمْ يُسْتَلْحَقْ؛ إِذْ لَا يُمْكِنُ إِثْبَاتُ نَسَبِهِ بِالْبَيِّنَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى اعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ فِي ذَلِكَ إِذَا عُرِفْتَ هُوَ إِجْمَاعُ الْأُمَّةِ عَلَى أَنَّ وَلَدَ الزَّانِيَةِ يَلْحَقُهَا، وَيَرِثُهَا لِلْعِلْمِ بِأَنَّهَا أُمُّهُ. وَلَمْ يُعْرَفْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ أَبَاحَ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ مِنَ الزِّنَا. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ اسْتِلْحَاقُ وَلَدِهِ مِنَ الزِّنَا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ وَلَدُهُ، بِأَنْ يَكُونَ زَنَى بِامْرَأَةٍ لَيْسَتْ بِذَاتِ فِرَاشٍ فِي طُهْرٍ لَمْ يُلَامِسْهَا فِيهِ رَجُلٌ قَطُّ، وَبَقِيَتْ مَحْبُوسَةً عَنِ الرِّجَالِ حَتَّى ظَهَرَ حَمْلُهَا. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ الْبِنْتِ مِنَ الزِّنَا حُرْمَةُ الْبِنْتِ مِنَ الرَّضَاعَةِ بَلْ تَحْرِيمُ بِنْتِ الزِّنَا أَوْلَى.
هَذَا، وَإِنَّ الْفُسَّاقَ لَا يُبَالُونَ أَيْنَ يَضَعُونَ نُطَفَهُمْ، وَلَا أَيْنَ يَضَعُونَ نَسْلَهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَزْنِي بِذَاتِ الْفِرَاشِ، فَيُضِيعُ وَلَدَهُ وَيُلْحِقُ بِصَاحِبِ الْفِرَاشِ مَنْ لَيْسَ مِنْ صُلْبِهِ، فَتَكُونُ لَهُ جَمِيعُ حُقُوقِ الْأَوْلَادِ عِنْدَهُ عَمَلًا بِالْقَاعِدَةِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَعْقُولَةِ فِي بِنَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَى الظَّاهِرِ، وَهِيَ «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ»، وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْسُقُ بِمَنْ لَا فِرَاشَ لَهَا، فَيَحْمِلُهَا عَلَى قَتْلِ حَمْلِهَا عِنْدَ وَضْعِهِ، أَوْ عَلَى إِلْقَائِهِ حَيْثُ يُرْجَى أَنْ يَلْتَقِطَهُ مَنْ يُرَبِّيهِ لِيَجْعَلَهُ خَادِمًا كَالرَّقِيقِ، أَوْ فِي بَيْتٍ مِنَ الْبُيُوتِ الَّتِي تُرَبَّى فِيهَا اللُّقَطَاءُ فِي بَعْضِ الْمُدُنِ ذَاتِ الْحَضَارَةِ الْعَصْرِيَّةِ، وَلَا يُبَالِي الْفَاسِقُ أَخَرَجَ وَلَدُهُ شَقِيًّا أَمْ سَعِيدًا، مُؤْمِنًا، أَمْ كَافِرًا!! فَلَعَنَ اللهُ الزُّنَاةَ، مَا أَعْظَمَ شَرَّهُمْ فِي جَمَاعَةِ الْبَشَرِ، وَلَعَنَ اللهُ الزَّوَانِيَ مَا أَكْثَرَ شَرَّهُنَّ وَأَعْظَمَ بُهْتَانَهُنَّ، فَإِنَّ الْوَاحِدَةَ مِنْهُنَّ لَتَحْمِلُ مَا لَا يَحْمِلُهُ مَنْ يَفْجُرُ بِهَا مِنَ الْعَنَاءِ وَالشَّقَاءِ وَتَوْبِيخِ الضَّمِيرِ، فَهُوَ يَسْفَحُ مَاءً لَا يَدْرِي مَا يَكُونُ وَرَاءَهُ، وَهِيَ الَّتِي تَعَلَّقُ بِهَا الْمُصِيبَةُ فَتُعَانِي مِنْ أَثْقَالِ حَمْلِهَا مَا تُعَانِي، ثُمَّ تُلْقِي حَمْلَهَا عَلَى فِرَاشِ زَوْجِهَا وَلَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَنْسَى طُولَ الْحَيَاةِ أَنَّهَا أَلْقَتْ بَيْنَ يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا بُهْتَانًا افْتَرَتْهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَتْهُ مِنْ حُقُوقِ عَشِيرَتِهِ مَا لَيْسَ لَهُ، أَوْ تُلْقِيهِ إِلَى يَدِ غَيْرِهَا، وَقَلْبُهَا مُعَلَّقٌ بِهِ قَلِقٌ عَلَيْهِ لَا يَسْكُنُ لَهُ اضْطِرَابٌ إِلَّا أَنْ يَسْلُبَهَا الْفِسْقُ أَفْضَلَ عَاطِفَةٍ، وَشُعُورٍ تَتَحَلَّى بِهِمَا الْمَرْأَةُ، وَمِنْهُنَّ مَنْ تَسْتَعْمِلُ الْأَدْوِيَةَ الْمَانِعَةَ مِنَ الْحَمْلِ، فَتَضُرُّ نَفْسَهَا وَرُبَّمَا أَفْسَدَتْ رَحِمَهَا.
النَّوْعُ الثَّالِثُ: الْحَوَاشِي الْقَرِيبَةُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَخَوَاتُكُمْ} سَوَاءٌ كُنَّ شَقِيقَاتٍ لَكُمْ، أَوْ كُنَّ مِنَ الْأُمِّ وَحْدَهَا، أَوِ الْأَبِ وَحْدَهُ.
النَّوْعُ الرَّابِعُ: الْحَوَاشِي الْبَعِيدَةُ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ.
النَّوْعُ الْخَامِسُ: الْحَوَاشِي الْبَعِيدَةُ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَبَارَكَ اسْمُهُ: وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَوْلَادُ الْأَجْدَادِ، وَإِنْ عَلَوْا، وَأَوْلَادُ الْجَدَّاتِ وَإِنْ عَلَوْنَ، وَعَمَّةُ جَدِّهِ، وَخَالَتُهُ، وَعَمَّةُ جَدَّتِهِ، وَخَالَاتُهَا لِلْأَبَوَيْنِ، أَوْ لِأَحَدِهِمَا، إِذِ الْمُرَادُ بِالْعَمَّاتِ، وَالْخَالَاتِ الْإِنَاثُ مِنْ جِهَةِ الْعُمُومِيَّةِ، وَمِنْ جِهَةِ الْخُئُولَةِ.